التوبة
لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب ، وأضرارها الماديّة والروحيّة ، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها ، وسوء آثارها على الإنسان .
فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها ، وضعف الجسم عن مكافحتها ، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس ، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب ، ودنَس الآثام ، قبل تفاقم غوائلها ، وعِسرِ تداركها .
وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة ، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة ، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة ، والإقلاع عن الشهَوات العارمة ، والأهواء الجامحة ، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة .
حقيقة التوبة :
لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح ، إلاّ بعد تبلورها ، واجتيازها
الصفحة 254
أطواراً ثلاثة :
فالطور الأوّل : هو طور يَقظَة الضمير ، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى ، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه ، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى :
الطور الثاني : وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل ، والعزم الصادق على طاعته ، ونبذ عصيانه ، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى :
الطور الثالث : وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب ، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات ، وتلاشي السيّئات ، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح .
وليست التوبةُ هزلاً عابثاً ، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان ، وإنّما هي : الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى ، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين ، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب ، كما قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ) .
فضائل التوبة :
للتوبة فضائل جمّة ، ومآثر جليلة ، صَوّرها القرآن الكريم ، وأعربَت عنها آثار أهل البيت ( عليهم السلام ) .
وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب ، وسفينة النجاة ، وصمّام الأمن
الصفحة 255
مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه .
وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب ، ومجاهل العِصيان ، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي ، وعفوه الكريم ، فشوّقهم إلى الإنابة ، ومهّد لهم التوبة ، فقال سُبحانه :
( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( الأنعام : 54) .
وقال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( الزمر : 53 ) .
وقال تعالى حاكياً : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً )(نوح : 10 - 12 ) .
وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )( البقرة : 222 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً ، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ) .
قال الراوي : وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال : ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب ، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه ، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب ، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه ، وليس شيءٌ يشهدُ
الصفحة 256
عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(1) .
وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ) .
وقال ( صلّى اللّه عليه وآله ) في حديثٍ آخر : ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب ، أو مؤمنةٍ تائبة )(2) .
وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفر ( عليهما السلام ) قال : ( إنّ آدم قال : يا ربِّ ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً .
فقال : يا آدم ، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء ، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة ، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة ، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً .
قال : يا رب زدني . قال : جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له .
قال: يا ربّ ، زدني . قال : جَعلتُ لهم التوبة ، حتّى يبلغ النفس هذه . قال : يا ربّ حسبي )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات ، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه ، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة ، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) .
(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي .
الصفحة 257
يستغفر ربّه فيغفر له ، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(1) .
وقال ( عليه السلام ) : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم : ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له ، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(2) .
وجوب التوبة وفوريّتها :
لا ريبَ في وجوب التوبة ، لدلالة العقل والنقل على وجوبها :
أمّا العقل : فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه . لذلك وجَب التحصّن بالتوبة ، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة ، في عاجل الحياة وآجلها .
وأمّا النقل : فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً ، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير .
فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته ) ، ثمّ قال : ( إنّ السنةَ
_____________________
(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي .
الصفحة 258
لكثير ، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : ( إنّ الشهرَ لكثير ، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : ( إنّ الجُمعة لكثير ، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : إنّ يوماً لكثير ، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(1) .
وعن الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه ، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه ، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له ، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(2) .
تجديد التوبة :
مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال ، ويستقيم بعد انحراف ، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة ، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر .
بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة ، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها ، فيُقارف المعاصي مِن جديد ، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات ، ينتصر عليها تارة ، وتنتصر عليه أُخرى ، وهكذا دواليك .
وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة خَشية النكول
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق (ره) .
الصفحة 259
عنها ، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام .
فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان ، وتسويلاته الآثمة ، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته ، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة ، وتصميمٍ جازم ، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك ، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل :
( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( الزمر : 53 ) .
وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) على تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة ، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها ، والانجراف بها ، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة .
فعن محمّد بن مسلم قال : قال الباقر ( عليه السلام ) : ( يا محمّد بن مسلم ، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له ، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ) .
قلت : فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب ، وعاد في التوبة .
فقال : ( يا محمّد بن مسلم ، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ : فإنّه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر . فقال : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة ، عاد اللّه عليه بالمغفرة ، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم ، يقبل التوبة ، ويعفو عن السيّئات ،
الصفحة 260
فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(1) .
وعن أبي بصير قال : ( قلتُ لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )( التحريم : 8 ) ؟ قال : ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ) . قلت : وأيّنا لم يعد .
فقال : ( يا أبا محمّد ، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(2) .
المراد بالمفتن التوّاب : هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة .
ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب ، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب ، وعدم ملافاتها بالتوبة ، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان ، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل ، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه .
منهاج التوبة :
ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة ، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب ، ومسؤوليّاتها الخطيرة ، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة .
فللذنوب صور وجوانب مختلفة :
منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم ، وهي قِسمان : تركُ الواجبات ، وفِعل المحرّمات .
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
الصفحة 261
فترْك الواجبات : كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات . وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع .
وأمّا فعل المحرّمات : كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات ، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها ، والعزم الصادق على تركها .
ومِن الذنوب : ما تكون جرائرها بين المرء والناس ، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة ، وأعسرها تلافياً ، كغصبِ الأموال ، وقتل النفوس البريئة المحرّمة ، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب .
والتوبة منها بإرضاء الخصوم ، وأداء الظُّلامات إلى أهلها ، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار ، وتوفير رصيد حسَنَاته ، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب .
قبول التوبة :
لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع ، لدلالة القرآن والسنّة عليها :
قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ )( الشورى : 25 ) .
وقال تعالى : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ )( غافر : 3 ) .
وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة ، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى ، وكريم عفوه ، وجزيل آلائه .
يتبع
لقد عرَفتَ في البحث السابق غوائل الذنوب ، وأضرارها الماديّة والروحيّة ، والتشابه بينهما وبين الأمراض الجسميّة في فداحتها ، وسوء آثارها على الإنسان .
فكما تجدرُ المسارعة إلى عِلاج الجِسم مِن جراثيم الأمراض قبل استفحالها ، وضعف الجسم عن مكافحتها ، كذلك تجِب المبادرة إلى تصفية النفس ، وتطهيرها مِن أوضار الذنوب ، ودنَس الآثام ، قبل تفاقم غوائلها ، وعِسرِ تداركها .
وكما تُعالَج الأمراض الصحيّة بتجرّع العقاقير الكريهة ، والاحتماء عن المطاعم الشهيّة الضّارة ، كذلك تعالَج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة ، والإقلاع عن الشهَوات العارمة ، والأهواء الجامحة ، ليأمن التائب أخطارها ومآسيها الدنيويّة والأخرويّة .
حقيقة التوبة :
لا تتحقّق التوبة الصادقة النصوح ، إلاّ بعد تبلورها ، واجتيازها
الصفحة 254
أطواراً ثلاثة :
فالطور الأوّل : هو طور يَقظَة الضمير ، وشعور المذنب بالأسى والندَم على معصية اللّه تعالى ، وتعرّضه لسخَطِه وعِقابه ، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى :
الطور الثاني : وهو طور الإنابة إلى اللّه عزَّ وجل ، والعزم الصادق على طاعته ، ونبذ عصيانه ، فإذا ما أنس بذلك تحوّل إلى :
الطور الثالث : وهو طور تصفية النفس مِن رواسِب الذنوب ، وتلافي سيّئاتها بالأعمال الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسَنَات ، وتلاشي السيّئات ، وبذلك تتحقّق التوبة الصادقة النصوح .
وليست التوبةُ هزلاً عابثاً ، ولقلقة يتشدَّق بها اللسان ، وإنّما هي : الإنابة الصادقة إلى اللّه تعالى ، ومجافاة عصيانه بعزمٍ وتصميم قويّين ، والمستغفِر بلسانه وهو سادر في المعاصي مستهترٌ كذّاب ، كما قال الإمام الرضا ( عليه السلام ) :
( المُستغفِر مِن ذنبٍ ويفعلُه كالمستهزئ بربِّه ) .
فضائل التوبة :
للتوبة فضائل جمّة ، ومآثر جليلة ، صَوّرها القرآن الكريم ، وأعربَت عنها آثار أهل البيت ( عليهم السلام ) .
وناهيك في فضلها أنّها بلسَمُ الذنوب ، وسفينة النجاة ، وصمّام الأمن
الصفحة 255
مَن سُخطِ اللّه تعالى وعِقابه .
وقد أبَت العناية الإلهيّة أنْ تُهمِل العُصاة يتخبّطون في دياجير الذنوب ، ومجاهل العِصيان ، دون أنْ يسَعَهم بعطفه السامي ، وعفوه الكريم ، فشوّقهم إلى الإنابة ، ومهّد لهم التوبة ، فقال سُبحانه :
( وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( الأنعام : 54) .
وقال تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( الزمر : 53 ) .
وقال تعالى حاكياً : ( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً )(نوح : 10 - 12 ) .
وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )( البقرة : 222 ) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( إذا تابَ العبد توبةً نصوحاً ، أحبّه اللّه تعالى فستَر عليه في الدنيا والآخرة ) .
قال الراوي : وكيف يستر اللّه عليه ؟ قال : ( ينسي ملَكَيه ما كَتَبَا عليه مِن الذنوب ، ثمّ يُوحي اللّه إلى جوارِحه اكتمي عليه ذنوبه ، ويوحي إلى بِقاع الأرض اكتمي عليه ما كان يعمل عليك مِن الذنوب ، فيَلْقى اللّه تعالى حين يلقاه ، وليس شيءٌ يشهدُ
الصفحة 256
عليه بشيءٍ مِن الذنوب )(1) .
وعن الرضا عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : التائبُ مِن الذنب كمَن لا ذنبَ له ) .
وقال ( صلّى اللّه عليه وآله ) في حديثٍ آخر : ( ليس شيءٌ أحبُّ إلى اللّه مِن مؤمنٍ تائب ، أو مؤمنةٍ تائبة )(2) .
وعن أبي عبد اللّه أو عن أبي جعفر ( عليهما السلام ) قال : ( إنّ آدم قال : يا ربِّ ، سلّطت عليّ الشيطان وأجريته مجرى الدم منّي فاجعل لي شيئاً .
فقال : يا آدم ، جعلتُ لك أنّ مَن همّ مِن ذرّيتك بسيّئة لم يُكتَب عليه شيء ، فإنْ عملها كُتِبَت عليه سيّئة ، ومَن همّ منهم بحسنةٍ فإنْ لم يعملها كُتِبَت له حسنة ، فإنْ هو عمِلَها كُتِبت له عشراً .
قال : يا رب زدني . قال : جعلتُ لك أنّ مَن عمِل منهم سيّئة ثمّ استغفرني غفرت له .
قال: يا ربّ ، زدني . قال : جَعلتُ لهم التوبة ، حتّى يبلغ النفس هذه . قال : يا ربّ حسبي )(3) .
وقال الصادق ( عليه السلام ) : ( العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله اللّه سبْعَ ساعات ، فإنْ استغفر اللّه لم يُكتَب عليه ، وإنْ مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيّئة ، وإنّ المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون أخبار الرضا ( عليه السلام ) .
(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي .
الصفحة 257
يستغفر ربّه فيغفر له ، وإنّ الكافر لينساه مِن ساعته )(1) .
وقال ( عليه السلام ) : ( ما مِن مؤمنٍ يُقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم : ( أستغفر اللّه الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيّوم ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، وأسأله أنْ يُصلّي على محمّدٍ وآل محمّدٍ ، وأنْ يتوب عليّ ) إلاّ غفرها اللّه له ، ولا خير فيمن يُقارف في يومه أكثر مِن أربعين كبيرة )(2) .
وجوب التوبة وفوريّتها :
لا ريبَ في وجوب التوبة ، لدلالة العقل والنقل على وجوبها :
أمّا العقل : فمن بديهيّاته ضرورة التوقّي والتحرّز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة لشقاء الإنسان وهلاكه . لذلك وجَب التحصّن بالتوبة ، والتحرّز بها مِن غوائل الذنوب وآثارها السيّئة ، في عاجل الحياة وآجلها .
وأمّا النقل : فقد فرضتها أوامر القرآن والسنّة فرضاً محتّماً ، وشوّقت إليها بألوان التشويق والتيسير .
فعن أبي عبد اللّه ( عليه السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : مَن تاب قبل موته بسنة قّبِل اللّه توبته ) ، ثمّ قال : ( إنّ السنةَ
_____________________
(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي .
الصفحة 258
لكثير ، مَن تاب قبل موتِه بشهرٍ قَبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : ( إنّ الشهرَ لكثير ، مَن تاب قبل موتِه بجُمعة قَبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : ( إنّ الجُمعة لكثير ، مَن تاب قَبل موته بيومٍ قبِل اللّه توبته ) .
ثمّ قال : إنّ يوماً لكثير ، مَن تابَ قَبل أنْ يُعايَن قبِل اللّه توبته )(1) .
وعن الصادق عن آبائه ( عليهم السلام ) قال : ( قال رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) : إنّ للّه عزَّ وجل فضولاً مِن رِزقه ، يُنحله مَن يشاء مِن خلقه ، واللّه باسطٌ يدَيه عند كلّ فجر لمذنبٍ الليل هل يتوب فيغفر له ، ويبسط يدَيه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب فيغفر له )(2) .
تجديد التوبة :
مِن الناس مَن يهتدي بعد ضلال ، ويستقيم بعد انحراف ، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة ، مُلبّياً داعي الإيمان، ونِداء الضمير الحُر .
بَيد أنّ الإنسان كثيراً ما تخدعه مباهج الحياة ، وتسترقّه بأهوائها ومغرياتها ، فيُقارف المعاصي مِن جديد ، منجَرفاً بتيّارها العَرم ِ، وهكذا يعيش صِراعاً عنيفاً بين العقل والشهَوات ، ينتصر عليها تارة ، وتنتصر عليه أُخرى ، وهكذا دواليك .
وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة خَشية النكول
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق (ره) .
الصفحة 259
عنها ، فيظلّون سادرين في المعاصي والآثام .
فعلى هؤلاء أنْ يعلموا أنّ الإنسان عرضةً لأغواء الشيطان ، وتسويلاته الآثمة ، ولا ينجو منها إلاّ المعصومون مِن الأنبياء والأوصياء ( عليهم السلام ) ، وأنّ الأجدر بهم إذا ما استزلّهم بخِدَعِه ومغرياته ، أنْ يُجدّدوا عهد التوبة والإنابة بنيّةٍ صادقة ، وتصميمٍ جازم ، فإنْ زاغوا وانحرفوا فلا يُقنطَهم ذلك عن تجديدها كذلك ، مُستشعِرين قول اللّه عزّ وجل :
( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )( الزمر : 53 ) .
وهكذا شجّعت أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) على تجديد التوبة ، ومواصلة الإنابة ، إنقاذاً لصرعى الآثام مِن الانغماس فيها ، والانجراف بها ، وتشويقاً لهم على استئناف حياة نزيهة مستقيمة .
فعن محمّد بن مسلم قال : قال الباقر ( عليه السلام ) : ( يا محمّد بن مسلم ، ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورةٌ له ، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة ، أما واللّه إنّها ليست إلاّ لأهل الإيمان ) .
قلت : فإنْ عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب ، وعاد في التوبة .
فقال : ( يا محمّد بن مسلم ، أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر اللّه تعالى منه ويتوب ثمّ لا يقبل اللّه توبته!! قلتُ : فإنّه فعل ذلك مراراً ، يذنب ثمّ يتوب ويستغفر . فقال : كلّما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة ، عاد اللّه عليه بالمغفرة ، وإنّ اللّه غفورٌ رحيم ، يقبل التوبة ، ويعفو عن السيّئات ،
الصفحة 260
فإيّاك أنْ تُقنّط المؤمنين مِن رحمة اللّه تعالى )(1) .
وعن أبي بصير قال : ( قلتُ لأبي عبد اللّه ( عليه السلام ) : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )( التحريم : 8 ) ؟ قال : ( هو الذنب الذي لا يعود إليه أبداً ) . قلت : وأيّنا لم يعد .
فقال : ( يا أبا محمّد ، إنّ اللّه يُحبّ مِن عباده المفتن التوّاب )(2) .
المراد بالمفتن التوّاب : هو مَن كان كثير الذنب كثير التوبة .
ولا بدع أنْ يحبّ اللّه تعالى المفتن التوّاب ، فإنّ الإصرار على مقارفة الذنوب ، وعدم ملافاتها بالتوبة ، دليلٌ صارخٌ على موت الضمير وتلاشي الإيمان ، والاستهتار بطاعة اللّه عزّ وجل ، وذلك من دواعي سخَطِه وعقابه .
منهاج التوبة :
ولا بدّ للتائب أنْ يعرف أساليب التوبة ، وكيفيّة التخلّص مِن تبِعات الذنوب ، ومسؤوليّاتها الخطيرة ، ليكفّر عن كلّ جريرةٍ بما يلائمها مِن الطاعة والإنابة .
فللذنوب صور وجوانب مختلفة :
منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم ، وهي قِسمان : تركُ الواجبات ، وفِعل المحرّمات .
_____________________
(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
(2) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي .
الصفحة 261
فترْك الواجبات : كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات . وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع .
وأمّا فعل المحرّمات : كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات ، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها ، والعزم الصادق على تركها .
ومِن الذنوب : ما تكون جرائرها بين المرء والناس ، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة ، وأعسرها تلافياً ، كغصبِ الأموال ، وقتل النفوس البريئة المحرّمة ، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب .
والتوبة منها بإرضاء الخصوم ، وأداء الظُّلامات إلى أهلها ، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار ، وتوفير رصيد حسَنَاته ، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب .
قبول التوبة :
لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع ، لدلالة القرآن والسنّة عليها :
قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ )( الشورى : 25 ) .
وقال تعالى : ( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ )( غافر : 3 ) .
وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة ، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى ، وكريم عفوه ، وجزيل آلائه .
يتبع
تعليق