يَـأَيُّهَا النَّبِىُّ جَـهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَـفِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَيـهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوح وَامْرَأَتَ لُوط كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَـلِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَّخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّـلِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَـتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَـنِتِينَ (12)
التّفسير:
نماذج من النساء المؤمنات والكافرات:
بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والإختلافات بين زوجاته - التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة - بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم.
حيث يقول: (ياأيّها النبي جاهد الكفّار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير).
الجهاد ضدّ الكفّار قد يكون مسلّحاً أو غير مسلّح، أمّا الجهاد ضدّ المنافقين فإنّه بدون شكّ جهاد غير مسلّح، لأنّ التاريخ لم يحدّثنا أبداً عن أنّ الرّسول خاض مرّة معركة مسلّحة ضدّ المنافقين.
لهذا ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) : "إنّ رسول الله لم يقاتل منافقاً قطّ إنّما يتألّفهم".
وبناءً على ذلك فإنّ المراد من الجهاد ضدّ المنافقين إنّما هو توبيخهم وإنذارهم وتحذيرهم، بل وتهديدهم وفضحهم، أو تأليف قلوبهم في بعض الأحيان.
فللجهاد معنى واسع يشمل جميع ذلك.
والتعبير بـ "أغلظ عليهم" إشارة إلى معاملتهم بخشونة وفضحهم وتهديدهم، وما إلى ذلك.
ويبقى هذا التعامل الخاصّ مع المنافقين، أي عدم الصدام المسلّح معهم، ما داموا لم يحملوا السلاح ضدّ الإسلام وذلك بسبب أنّهم مسلمون في الظاهر، وتربطهم بالمسلمين روابط كثيرة لا يمكن معها محاربتهم كالكفّار، أمّا إذا حملوا السلاح فيجب أن يقابلوا بالمثل، لأنّهم سوف يتحوّلون إلى (محاربين).
ولم يحدث مثل ذلك أيّام حياة الرّسول (ص) لكنّه حدث في خلافة أمير المؤمنين علي (ع) حيث خاض ضدّهم معركة مسلّحة.
وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ المقصود من "الجهاد ضدّ المنافقين" الذي ورد ذكره في الآية السابقة هو إجراء الحدود الشرعية بحقّهم، فإنّ أكثر الذين كانوا تجرى عليهم الحدود هم من المنافقين.
ولكن لا دليل على ذلك، كما لا دليل على أنّ الحدود كانت تجرى على المنافقين غالباً.
الجدير بالذكر أنّ الآية السابقة وردت أيضاً وبنفس النصّ في سورة التوبة الآية 73.
ومن أجل أن يعطي الله تعالى درساً عملياً حيّاً إلى زوجات الرّسول الأعظم(ص) عاد مرّة اُخرى يذكر بالعاقبة السيّئة لزوجتين غير تقيتين من زوجات نبيين عظيمين من أنبياء الله، وكذلك يذكر بالعاقبة الحسنة والمصير الرائع لامرأتين مؤمنتين مضحيّتين كانتا في بيتين من بيوت الجبابرة، حيث يقول أوّلا: (ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
وبناءً على هذا فإنّ القرآن يحذّر زوجتي الرّسول اللتين اشتركتا في إذاعة سرّه، بأنّكما سوف لن تنجوا من العذاب لمجرّد كونكما من أزواج النبي كما فعلت زوجتا نوح ولوط فواجهتا العذاب الإلهي.
كما تتضمّن الآيات الشريفة تحذيراً لكلّ المؤمنين بأنّ القرب من أولياء الله والإنتساب إليهم لا يكفي لمنع نزول عذاب الله ومجازاته.
وورد في كلمات بعض المفسّرين أنّ زوجة نوح كانت تدعى "والهة" وزوجة لوط "والعة" بينما ذكر آخرون عكس ذلك أي أنّ زوجة لوط اسمها (والهة) وزوجة نوح اسمها (والعة).
وعلى أيّة حال فإنّ هاتين المرأتين خانتا نبيّين عظيمين من أنبياء الله.
والخيانة هنا لا تعني الإنحراف عن جادّة العفّة والنجابة، لأنّهما زوجتا نبيّين ولا يمكن أن تخون زوجة نبي بهذا المعنى للخيانة، فقد جاء عن الرّسول(ص) : "ما بغت امرأة نبي قطّ".
كانت خيانة زوجة لوط هي أن أفشت أسرار هذا النبي العظيم إلى أعدائه، وكذلك كانت زوجة نوح (ع).
وذهب الراغب في "المفردات" إلى أنّ للخيانة والنفاق معنىً واحداً وحقيقة واحدة، ولكن الخيانة تأتي في مقابل العهد والأمانة، والنفاق يأتي في الاُمور الدينية وما تقدّم من سبب النزول ومشابهته لقصّة هاتين المرأتين توجب كون المقصود من الخيانة هنا هو نفس هذا المعنى.
وعلى كلّ حال فإنّ الآية السابقة تبدّد أحلام الذين يرتكبون ما شاء لهم أن يرتكبوا من الذنوب ويعتقدون أنّ مجرّد قربهم من أحد العظماء كاف لتخليصهم من عذاب الله، ومن أجل أن لا يظنّ أحد أنّه ناج من العذاب لقربه من أحد الأولياء، جاء في نهاية الآية السابقة: (فلم يغنينا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين).
ثمّ يذكر القرآن الكريم نموذجين مؤمنين صالحين فيقول: (وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون).
من المعروف أنّ اسم زوجة فرعون (آسية) واسم أبوها (مزاحم) وقد آمنت منذ أن رأت معجزة موسى (ع) أمام السحرة، واستقرّ قلبها على الإيمان، لكنّها حاولت أن تكتم إيمانها، غير أنّ الإيمان برسالة موسى وحبّ الله ليس شيئاً يسهل كتمانه، وبمجرّد أن اطّلع فرعون على إيمانها نهاها مرّات عديدة وأصرّ عليها أن تتخلّى عن رسالة موسى وربّه، غير أنّ هذه المرأة الصالحة رفضت الإستسلام إطلاقاً.
وأخيراً أمر فرعون أن تُثبت يداها ورجلاها بالمسامير، وتترك تحت أشعة الشمس الحارقة، بعد أن توضع فوق صدرها صخرة كبيرة.
وفي تلك اللحظات الأخيرة كانت امرأة فرعون بهذا الدعاء إذ قالت: (ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين) وقد استجاب لها ربّها وجعلها من أفضل نساء العالم إذ يذكرها في صفّ مريم.
في رواية عن الرّسول (ص) : "أفضل نساء أهل الجنّة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمّد ومريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم امرأة فرعون".
ومن الطريف أنّ امرأة فرعون كانت تستصغر بيت فرعون ولا تعتبره شيئاً مقابل بيت في الجنّة وفي جواره تعالى، وبذلك أجابت على نصائح الناصحين في أنّها ستخسر كلّ تلك المكاسب وتحرم من منصب الملكة (ملكة مصر) وما إلى ذلك.
لسبب واحد هو أنّها آمنت برجل راع كموسى.
وفي عبارة (ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين) تضرب مثلا رائعاً للمرأة المؤمنة التي ترفض أن تخضع لضغوط الحياة، أو تتخلّى عن إيمانها مقابل مكاسب زائلة في هذه الدنيا.
لم تستطع بهارج الدنيا وزخارفها التي كانت تنعم بها في ظلّ فرعون، والتي بلغت حدّاً ليس له مثيل.
لم تستطع كلّ تلك المغريات أن تثنيها عن نهج الحقّ، كما لم تخضع أمام الضغوط وألوان العذاب التي مارسها فرعون.
وقد واصلت هذه المرأة المؤمنة طريقها الذي إختارته رغم كلّ الصعاب واتّجهت نحو الله معشوقها الحقيقي.
وتجدر الإشارة إلى أنّها كانت ترجو أن يبني الله لها بيتاً عنده في الجنّة لتحقيق بعدين ومعنيين: المعنى المادّي الذي أشارت إليه بكلمة "في الجنّة"، والبعد المعنوي وهو القرب من الله "عندك" وقد جمعتهما في عبارة صغيرة موجزة.
ثمّ يضرب الله تعالى مثلا آخر للنساء المؤمنات الصالحات، حيث يقول جلّ من قائل: (ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا).
فهي امرأة لا زوج لها أنجبت ولداً صار نبيّاً من أنبياء الله العظام (من اُولي العزم).
ويضيف تعالى قائلا: (وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه) و (كانت من القانتين).
كانت في القمّة من حيث الإيمان، إذ آمنت بجميع الكتب السماوية والتعاليم الإلهية، ثمّ إنّها كانت قد أخضعت قلبها لله، وحملت قلبها على كفّها وهي على أتمّ الإستعداد لتنفيذ أوامر الباري جلّ شأنه.
ويمكن أن يكون التعبير بـ (الكتب) إشارة إلى كلّ الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء، بينما التعبير بـ (كلمات) إشارة إلى الوحي الذي لا يكون على شكل كتاب.
ونظراً لرفعة مقام مريم وشدّة إيمانها بكلمات الله، فقد وصفها القرآن الكريم في الآية (75) من سورة المائدة (صدّيقة).
وقد أشار القرآن إلى مقام هذه المرأة العظيمة في آيات عديدة، منها ما جاء في السورة التي سمّيت باسمها أي (سورة مريم).
على أيّة حال فإنّ القرآن الكريم تصدّى للشبهات التي أثارها بعض اليهود المجرمين حول شخصية هذه المرأة العظيمة، ونفى عنها كلّ التّهم الرخيصة حول عفافها وطهارتها وكلّ ما يتعلّق بشخصيتها الطاهرة.
والتعبير بـ (ونفخنا فيه من روحنا) لإظهار عظمة وعلو هذه الروح، كما أشرنا إلى ذلك سابقاً. أو بعبارة اُخرى: إنّ إضافة كلمة (روح) إلى "الله" إضافة تشريفية لبيان عظمة شيء مثل إضافة "بيت" إلى "الله".
ومن الغريب ما كتبه بعض المفسّرين من إعتبارهم عائشة أفضل النساء، وأنّها أعظم من غيرها من النساء ذوات القدر الكبير والشأن عند الله.
ولقد كان حريّاً بهم أن لا يتطرّقوا إلى هذا الحديث في هذه السورة، التي نزلت لتعلن خلاف ما ذهبوا إليه وبشكل صريح لا يقبل الجدل.
فإنّ كثيراً من مفسّري ومؤرّخي أهل السنّة أكّدوا على أنّ اللوم والتوبيخ اللذين وردا في الآيات السابقة كانا موجّهين إلى زوجتي الرّسول (ص) "حفصة" و "عائشة" ومنها ما جاء في صحيح البخاري الجزء السادس صفحة 195 ونحن ندعو بهذه المناسبة أهل التفكير الحرّ جميعاً لأن يعيدوا تلاوة آيات هذه السورة ثمّ ليتعرّفوا على قيمة وجدارة مثل هذه الأحاديث.
اللهمّ جنّبنا الحبّ الأعمى والبغض الأعمى الذي لا يقوم على البرهان بقدر ما يقوم على العصبية، واجعلنا من المستسلمين الخاضعين بكلّ وجودنا إلى آيات قرآنك المجيد.
ربّنا ولا تجعلنا من الذين غضب عليهم الرّسول فلم يرض أعمالهم وطريقة حياتهم.
اللهمّ هب لنا إستقامة لا نتأثّر معها بالضغوط، ولا نخضع لعذاب الفراعنة وجبابرة العصر.
آمين ربّ العالمين
تعليق