السيد علي السيستاني، الإنسان كما رأيته
المقدمة
ذهبتُ لأبحث عن الجواب، كأي انسان بسيط، وبسيط جداً ينتمي للإنسان يريد العودة إلى ذاته ويراه في الآخر.
أسباب من قتل أحبتنا في العراق والسبب الحقيقي وراء الجرائم البشعة. وتحديداً من قتل صديق طفولتي: صالح القزويني وأخوته؟ ومن وراء مسلسل القتل اليومي في العراق بعد دخول الأمريكان وتحريره من عصابة البعث الأجرامية؟.
هذه الأسئلة والتفاصيل أدناه هي التي دفعتني إلى فكرة اللقاء. لماذا يحصل كل هذا لنا في العراق؟.
العيش في الفجوة
إن تجربة العيش في الغرب لها معانٍ عديدة على الأقل في مفهوم الحرية، وكيف أصبح الإنسان يدرك هذا على أنه ضمن منظومة اجتماعية هندسية فيها قدر عالٍ من المسؤولية في المشاركة نحو بناء صحيح، والعطاء نحو الإبداع هو ما يميز بني البشر. والقانون على الجميع مفروض دون تمييز.
عشقتُ عندهم حرية الإنسان وتحملتُ منهم ثقل الآلام جراء عقلٍ ظل يقارن في دورانه بين زمن حاضر وماضٍ من الأوهام، في ترديد كلمة لماذا؟
في بلدي رعبٌ يستشري الأبدان. لماذا يقتل الإنسان والأمل البسام؟
ولماذا، لماذا، لماذا؟
كأنك تراني أعيش في الفجوة مردداً: كلمة... لماذا؟
العوم في النقاء
وما حصل في العراق في زمن القائد - الضرورة (الهارب علناً وأمام الجميع دون استثناء) من جرائم كبيرة في حق أهلنا جعلنا فعلاً نفكر ملياً بأن زمن الحرية آتٍ، وأن الإنسان هناك سوف يُسعد وينعم والحمد لله مثلما أنا عليه، وسوف يعاقب القانون من تثبت عليه التهمة في قتل أخي الإنسان.
ولكننا نتفاجأ ثانيةً في استمرار مسلسل القتل وبشكل وقحٍ وخالٍ من الآدمية، وآهات موجعة في حق أهلنا.
إن العالم يشاهد ما يحصل من الجريمة المنظمة في بلادنا، ويدعي أحياناً مناصرته لنا تحت أسم محاربة الإرهاب. لكن لا فعل حقيقي على أرض الواقع، والشهداء يزداد عددهم كل يوم.
ولم أعد قادراً على حبس دموعي النازلة من صرخة الصمت الطويل، زمن الديكتاتورية البغيضة.
يا إلهي إلى أين أذهب وكأني أعوم في النقاء لأمسك بتلك الكلمة... لماذا؟
تشتت في الثبات
أجمل إحساس كنت أشعر فيه (أنني أصبحتُ حراً) وسوف يكون لنا بلدٌ يضمنا جميعاً، وبدأنا نسافر ونحضر المؤتمرات ونتعرف على العراقيين، ونلتقي بالأسماء القديمة، وحلم العراق رجع إلى أهلهِ بعدما كان مغتصباً من قبل العصابة المجرمة.
واليوم علينا أن نفهم أن زمن الصراعات قد أنتهى ومعاني بناء الوطن والنجاح تقع ضمن مسؤولية واحدة. المواطن والسياسي، الذي يمثله في أدارة شؤون البلاد.
وكن من تكون: حزبي، مستقل، علماني، شيوعي... الخ، لكن عليك أن تتذكر دائماً بأن تكون آدمياً وتحترم أدمية الناس أجمعين.
وكأنني بهذا الكلام كمن يتكلم مع حائط، وسرعان ما يتوصل هذا المواطن (الودود والمستمع والمشارك في الكلام أعلاه) إلى منافذ السلطة، ليخرج منه صدام الصغير (الدكتاتورية) ويمارسه في الخفاء والعلن، مؤكداً أن ما تعلمناه من الدروس والعبر في هذه الحياة ومهما نكسب من خبرة عملية خارج أو داخل الوطن، يبقى رهينة أداء ذاك الشخص ومقدار ما يحافظ على ثبات فكره الحر.
وكم هي الأمثلة الكثيرة على ذلك من أشخاص وأحزاب تشتتوا وتغيروا جراء مغريات السلطة.
لماذا يتغيرون؟
يا إلهي، لقد بدأتُ أكرر كلمة... لماذا؟
فكرة اللقاء
كل ما تقدم أعلاه، هو ترديد كلمة "لماذا" في داخلي، جعلتني أفكر مرات ومرات بأن أحصل على جواب وأين أذهب، يا إلهي؟ هل أبدأ القراءة من جديد عن تاريخ الإنسان ومراحل تطوره والصراع مع أخيه الإنسان. ونحن اليوم نعيش في زمن ينعم فيه الإنسان الغربي بالحرية والرفاه ساعياً نحو التكامل في البناء الصحيح: الثقافة، الصحة، التربية، الاقتصاد، السياسة والإجتماع.
كل ذاك يصب في احترام آدمية الإنسان، ولكن هل يختلف مفهوم الإنسان عندنا، ولماذا؟
تحدثتُ كثيراً إلى أصحاب الفكر والفلسفة، كُتاب، شعراء، إعلاميين، أساتذتي القدماء والجدد.
وأعتقدُ أنني أصغيتُ كثيراً إلى أجوبتهم في ترديد فكرة "لماذا يقتل أخي الإنسان في العراق؟"، ولمصلحة من؟
بالتأكيد ظهور أسم السيد علي السيستاني كمرجع أعلى للطائفة الشيعية وتردد كثير من السياسيين عليه والتحدث معه بأمور البلد الساخنة والإستماع إليه جعلني أفكر فيه كثيراً ربما أنني سوف أجد الجواب الشافي للكلمة التي أرددها دائماً "لماذا؟"، مع العلم أنني كنت أظنُ صعوبة الوصول إليه. ومن أنا حتى يلتقي بي هذا السيد الجليل سيما ونحن نسمع من خلال وسائل الإعلام أنه رفض مقابلة فلان وعلان وآخرين والجميع أسماء لامعة في عالم السياسة على الرغم من أنني أجهل قطعاً سبب رفضه لقاءهم. لذلك كنت أشجع نفسي بأنني أمتلكُ سبباً قوياً بأن ألتقي به ليس فقط بحثاً عن الجواب الشافي على ترديد كلمة لماذا، بل هناك أيضاً أسئلة محيرة يمكن ايجازها بالتالي:
• ما هو دور الدين في العراق الجديد؟
• لماذا الغياب الواضح للإحتراف في بناء العراق، ومسؤولية من؟
• أين هي مسؤولية الدين في نشر الوعي عند المواطن؟
في عيوني جمال... من يراه؟
فعلاً بدأتُ أشعر أنني متأكد من نفسي ومتشوق إلى هذا اللقاء ولكن من هو الذي سوف يوصلني إليه؟ سيما أنني أنتمي إلى كل العراق، بصحيح العبارة: لا يوجد عندي أي أرتباط حزبي، ولا أنتماءات مصلحية مقربة من علو المنبر السياسي العراقي الحديث، والذي فيه الكثير من إدعاء الدين بالأسم فقط والمزيف بالفعل.
وبالصدفة وخلال اللقاء الرائع مع أحد الأخوة من الفنانين العراقين، وأثناء الحديث معه ذكر لي أن أعماله محط إعجاب ألسيد السيستاني، وهنا كانت المفاجأة: يا إلهي السيد السيستاني يتذوق الفن!؟، ولِمَ لا؟ وأنه كأي إنسان يعشق الإبداع ويتمتع بالجمال. هذا ما قاله لي هذا الفنان المبدع.
وسألته مباشرة: هل بمقدورك أن توصلني إليه؟ وإذا به يتفاجأ بطلبي ، ويردُّ علي:َّ "ليش تريد تشوفه"؟
وبلهجتنا العامية الجميلة أجبته: في عيوني جمال الحياة، هل يستطيع السيد السيستاني أن يراه معي؟، ويجيبني من قتل أخي الإنسان؟، وأين الوردة الحمراء "الجورية"؟، ومن أحرق المشتل في الحي القديم؟
ببساطة جداً من يعشق الجمال يراه في عيون الناس جميعاً. وعيوني فيها أيضاً بعض دموع ألأمهات العراقيات وبكيتُ كثيراً ثم وعدني هذا الفنان الرائع بأنه سوف يسعى إلى ترتيب اللقاء.
وكان وفياً بوعده فبعد أيام من لقائي معه، رنُّ هاتفي وسمعته يقول لي بغبطة أنه سوف يصطحبني إلى بيت السيد السيستاني في اليوم كذا وفي تمام الساعة كذا.
شكرته كثيراً وأهديته وردة جورية من مشتل حينا القديم، وهو أعرفُ كم هي ثمينة عندي تلك الوردة التي تحمل عبق ذكريات زمن الأصدقاء الشهداء وأنا اترقب عودتهم عند المساء.
صدق الرداء
فكرتُ كثيراً بأي منظرٍ وعطر ٍسألتقي هذا السيد الجليل، وقررت أن أرتدي الصدق كله ليكون مظهري. وأطرح كل ما في جعبتي من أسئلة، كنت أتردد أحياناً فلعلها ثقيلة عليه وانا تلميذ صغير جئتُ إليه طمعاً بالجواب، ثم أشدُّ على نفسي بالحديث معها، الإنسان يحبُ أخيه الإنسان وليكن هذا الإنسان اليوم يلتقي بأخيه ولا يوجد من يميزهُ سوى الأداء في العطاء الإنساني، ونحن جميعاً في هذه الدنيا راحلون، لنترك ذكرى طيبة يلخصها القول الشعبي المعروف: "كان خوش آدمي. ألف رحمة على البطن اللي حملته".
وهكذا دخلنا الدار البسيط والكبير في قلوب الناس جميعاً، ويستقبلنا أبنه الشاب السيد محمد رضا، ليسألني في البدء عن عملي ومحل إقامتي وليتعرف عليَّ.
لم أعد قادراً حينها على حبس دموعي التي تراني دائماً أكثر مني، ليردَّ صاحبي عني بأنني قادم من بريطانيا، وإنني أتمنى لقاء سماحة السيد. وكان هذا الشاب الوسيم كثير الحراك والكلام مع الضيوف القادمين.
وبين حين وآخر يرجع علينا ويواصل الحديث معي. شعرتُ باستغرابه من خلال نظراته إليَّ وإلى دموعي النازلة مع الصمت الذي لازمني ساعة دخول البيت.
في حضني حمامة
لا يزال هذا الشاب السيد مجمد رضا يحوم حولي لمعرفة المزيد مني، وبدأ الحديث المباشر مرة أخرى معي. وأتذكر جيداً أن أجوبتي كلها كانت تصبُ في القول الموروث: خير الكلام ما قل ودل. وعرف مني جيداً قصد زيارتي هذه، في اللقاء بالسيد المرجع (الوالد) وليس هو المعني. وأعتقدُ أنني كنت واضحاً جداً معه في ذلك، وكان ذكياً في ادراك نبرة حزني وعمقه. ذهب حينها بعيداً عنا وغاب برهةً ثم رجع ليعلن لي بأذن الدخول على سماحة السيد علي السيستاني.
وفي هدوء تحركتُ من مكاني متمشياً مسافة أقل من خمسة أمتار، متوجهاً إلى باب غرفة دخلتها، وعلى اليمين كان يجلس سماحة السيد وسرعان ما أطلقتُ السلام عليه وأذا به يرد التحية بأحسن منها وينهض من مكانهِ واقفاً، وبدأتُ أعانقهُ وبدون قصد وكأنني أعرفهُ من سنيين طويلة. وطلب مني أن أستريح إلى جنبهِ، يا إلهي! أنني إلى جنبِ أخي الإنسان أجلس معه.
سهَّلَ هذا عليَّ بدء الكلام حيث أن أول الإنطباع وفر عليَّ اختزال الكثير من خزين الشجن وكيف ومن أين أبدأ معه. هكذا أنا مع سماحته جنباً إلى جنب وقريب جداً منه، ربما دخلت إلى روحه والله أعلم في شعور الطمأنينة الرهيب، وكل ما حولنا هدوء في هدوء وعلى الأرض نجلس متربعين عليها.
توجهتُ بأسئلتي كلها واحدة تلو الأخرى، وكنتُ أحياناً أقاطعه. الكلام يلزمني ادخال سؤال آخر والسيد الجليل يجيبني. يا إلهي طمعتُ بأكثر مما أريد من أجوبة. هكذا الإنسان عندما يكون بسيطاً، تستخرج منه كل ما يحيّرك وأنت تستمع إليه في هدوء تام، ولم تنزل الدموع، أحسستُ بمن يمسحها عني. قول جميل من هذا الإنسان، لم أزل أتذكر معانيه:
• هذا بلدكم، وعليكم بناءه.
• الجهل في الأمة عارم
• مسؤولية المثقف ودوره في المجتمع.
• إن جريمة قمع وقتل الإنسان منذ أربعة عشر قرن لا تزال مستمرة.
• حضارة الغرب وأثرها على شعوب العالم.
• الفقر الشديد في أفريقيا
• منظر الدبابة الامريكية في شوارع المدن العراقية ومن أتى بها؟
يا إلهي، مضى كل الوقت الذي يحمل وجع السنين في جلسة قدرها خمس وثلاثين دقيقة، وأنا لم أزل متربعاً على كل الأرض، ويداي لما يزالا في دفءٍ، وكأنني ماسكاً حمامة في حضني لأشكره على ما أمضى معي من وقته الثمين.
تصور عزيزي القاريء سماحته يعتذر إليَّ بأنه غير قادر على النهوض ثانيةً، ليودعني ويشير إلى آثار العملية الجراحية التي أجراها مؤخراً في القلب، وصحته لا تزال في طور الشفاء.
تمنيتُ له الشفاء التام، وودعته في سلام من الله.
لا تستحٍ من إعطاء القليل فأن الحرمان أقل منه
يتضح مما مرَّ من أجوبة عميقة ومعانٍ باهرة أن المواضيع في حضرته تبقى مفتوحة دائماً للنقاش وليس هناك مسطرة تحدد لنا دائماً قياس الأسئلة وأجوبتها في دفاتر هذه الحياة على حد قول أحد الكتاب العراقيين في إحدى مكالماتي الهاتفية معه.
فعلاً كان للزيارة مذاق خاص مفعم بالحياة وخالٍ من الضغوط، حيث الإنسان يلتقي مع أخيه الإنسان وقلبه يفيض بالحب للناس على مختلف مشاربهم ومسالكهم.
لم يسألني سماحة السيد في ذاك اللقاء: ماذا تحب؟ أو تكره؟ وتلبس؟ وتأكل؟
لماذا لم نتعلم من العلماء الكبار منهج الفكر الصحيح، ونبتعد عن فرض ما نؤمن به على الناس. فالدين هو النصيحة. وما نشاهده اليوم من قتل للإنسان في العراق هو عين الجهل برمته.
لعلنا يوما نرى روح المحبة سائدة، ونستفيد من تجربتنا القاسية التي فيها الكفاية من المآسي المريرة والزمن الأغبر (زمن العصابة البعثية البغيض).. وليس عيباً نتعلم من بعضنا البعض النصيحة ونشد أيدينا بأيدي بعض بحسن نية واضحة، ونجعل الصدق رداءنا، ولا نقبل أن نستبدله بآخر.
وليكن النجاح سمة أعمالنا، فمن غير المفيد أن ينجح زيد بدون عمر. كلهم للعراق عنواناً للنجاح.
وعندما نلتقي بقلب مفتوح، ليس فيه أي بغضٍ، نعتذر عندما نخطأ، ونرجو أن نتسامح بالفعل وليس بالقول فقط، ونتعلم أن نبتسم لبعضنا، ولا نقبل بغير كلام الحب، ونتذكر أن "الكلمة الطيبة صدقة"، والإحترام بيننا باقٍ حتى في الخصام والإختلاف، وهي صفة التربية المهذبة، ولنحتضن أهل الإبداع من الكتاب الرائعيين والشعراء والفنانين وأساتذتنا المخلصيين، فكلهم لنا، وانا وانت لهم، وليس عيبا أبداً أن نظهر مختلفين فيما بيننا. ولا ندع خصوصياتنا سوء فهم لمشتركات كثيرة بيننا، والفصل بين ما نحب ونريد وبين ما يحبه ويريده الجميع.
إن الدول المتقدمة علينا تطورت لأنها تحترم آدمية الإنسان. وترى فيه القيمة العليا على هذه الأرض. لذا وضعت كل القوانين لحمايته، فمعاني الصدق في العطاء هي بأن تكون لغة الإنسان إلى أخيه الإنسان خالية من فرض الدين بالإكراه، وجميعنا يعلم أن كل هذه الأديان جاءت من أجل سعادة الإنسان في الدنيا. يستهوينا حديث الدين عندما يكون هناك حب كبير إلى الدين الآخر، ولا نستحي من أعطاء القليل ونتذكر أن الحرمان أقل منه، والمال ليس وحده المقصود في هذا العطاء بل المعاني السامية في روح آدمية الإنسان: البسمة، الكلمة الطيبة، الرحمة، الهمسة، الرقة، الطيبة، الخ... وهذا ما يحتاجه الناس في العراق اليوم فيما بينهم.
وإذ نمتليء بهذه المعاني الإنسانية المضيئة فستأتي لاحقاً كل الخدمات العامة لدفع منظومة الإنسان نحو الأمان والسلام والتقدم والإزدهار. ويقيناً أن يد الله دائماً مع الجماعة المحبة لبعضها.
قل: آمين يارب العالمين.
منقول من شبكة اخبار النجف الاشرف
المقدمة
ذهبتُ لأبحث عن الجواب، كأي انسان بسيط، وبسيط جداً ينتمي للإنسان يريد العودة إلى ذاته ويراه في الآخر.
أسباب من قتل أحبتنا في العراق والسبب الحقيقي وراء الجرائم البشعة. وتحديداً من قتل صديق طفولتي: صالح القزويني وأخوته؟ ومن وراء مسلسل القتل اليومي في العراق بعد دخول الأمريكان وتحريره من عصابة البعث الأجرامية؟.
هذه الأسئلة والتفاصيل أدناه هي التي دفعتني إلى فكرة اللقاء. لماذا يحصل كل هذا لنا في العراق؟.
العيش في الفجوة
إن تجربة العيش في الغرب لها معانٍ عديدة على الأقل في مفهوم الحرية، وكيف أصبح الإنسان يدرك هذا على أنه ضمن منظومة اجتماعية هندسية فيها قدر عالٍ من المسؤولية في المشاركة نحو بناء صحيح، والعطاء نحو الإبداع هو ما يميز بني البشر. والقانون على الجميع مفروض دون تمييز.
عشقتُ عندهم حرية الإنسان وتحملتُ منهم ثقل الآلام جراء عقلٍ ظل يقارن في دورانه بين زمن حاضر وماضٍ من الأوهام، في ترديد كلمة لماذا؟
في بلدي رعبٌ يستشري الأبدان. لماذا يقتل الإنسان والأمل البسام؟
ولماذا، لماذا، لماذا؟
كأنك تراني أعيش في الفجوة مردداً: كلمة... لماذا؟
العوم في النقاء
وما حصل في العراق في زمن القائد - الضرورة (الهارب علناً وأمام الجميع دون استثناء) من جرائم كبيرة في حق أهلنا جعلنا فعلاً نفكر ملياً بأن زمن الحرية آتٍ، وأن الإنسان هناك سوف يُسعد وينعم والحمد لله مثلما أنا عليه، وسوف يعاقب القانون من تثبت عليه التهمة في قتل أخي الإنسان.
ولكننا نتفاجأ ثانيةً في استمرار مسلسل القتل وبشكل وقحٍ وخالٍ من الآدمية، وآهات موجعة في حق أهلنا.
إن العالم يشاهد ما يحصل من الجريمة المنظمة في بلادنا، ويدعي أحياناً مناصرته لنا تحت أسم محاربة الإرهاب. لكن لا فعل حقيقي على أرض الواقع، والشهداء يزداد عددهم كل يوم.
ولم أعد قادراً على حبس دموعي النازلة من صرخة الصمت الطويل، زمن الديكتاتورية البغيضة.
يا إلهي إلى أين أذهب وكأني أعوم في النقاء لأمسك بتلك الكلمة... لماذا؟
تشتت في الثبات
أجمل إحساس كنت أشعر فيه (أنني أصبحتُ حراً) وسوف يكون لنا بلدٌ يضمنا جميعاً، وبدأنا نسافر ونحضر المؤتمرات ونتعرف على العراقيين، ونلتقي بالأسماء القديمة، وحلم العراق رجع إلى أهلهِ بعدما كان مغتصباً من قبل العصابة المجرمة.
واليوم علينا أن نفهم أن زمن الصراعات قد أنتهى ومعاني بناء الوطن والنجاح تقع ضمن مسؤولية واحدة. المواطن والسياسي، الذي يمثله في أدارة شؤون البلاد.
وكن من تكون: حزبي، مستقل، علماني، شيوعي... الخ، لكن عليك أن تتذكر دائماً بأن تكون آدمياً وتحترم أدمية الناس أجمعين.
وكأنني بهذا الكلام كمن يتكلم مع حائط، وسرعان ما يتوصل هذا المواطن (الودود والمستمع والمشارك في الكلام أعلاه) إلى منافذ السلطة، ليخرج منه صدام الصغير (الدكتاتورية) ويمارسه في الخفاء والعلن، مؤكداً أن ما تعلمناه من الدروس والعبر في هذه الحياة ومهما نكسب من خبرة عملية خارج أو داخل الوطن، يبقى رهينة أداء ذاك الشخص ومقدار ما يحافظ على ثبات فكره الحر.
وكم هي الأمثلة الكثيرة على ذلك من أشخاص وأحزاب تشتتوا وتغيروا جراء مغريات السلطة.
لماذا يتغيرون؟
يا إلهي، لقد بدأتُ أكرر كلمة... لماذا؟
فكرة اللقاء
كل ما تقدم أعلاه، هو ترديد كلمة "لماذا" في داخلي، جعلتني أفكر مرات ومرات بأن أحصل على جواب وأين أذهب، يا إلهي؟ هل أبدأ القراءة من جديد عن تاريخ الإنسان ومراحل تطوره والصراع مع أخيه الإنسان. ونحن اليوم نعيش في زمن ينعم فيه الإنسان الغربي بالحرية والرفاه ساعياً نحو التكامل في البناء الصحيح: الثقافة، الصحة، التربية، الاقتصاد، السياسة والإجتماع.
كل ذاك يصب في احترام آدمية الإنسان، ولكن هل يختلف مفهوم الإنسان عندنا، ولماذا؟
تحدثتُ كثيراً إلى أصحاب الفكر والفلسفة، كُتاب، شعراء، إعلاميين، أساتذتي القدماء والجدد.
وأعتقدُ أنني أصغيتُ كثيراً إلى أجوبتهم في ترديد فكرة "لماذا يقتل أخي الإنسان في العراق؟"، ولمصلحة من؟
بالتأكيد ظهور أسم السيد علي السيستاني كمرجع أعلى للطائفة الشيعية وتردد كثير من السياسيين عليه والتحدث معه بأمور البلد الساخنة والإستماع إليه جعلني أفكر فيه كثيراً ربما أنني سوف أجد الجواب الشافي للكلمة التي أرددها دائماً "لماذا؟"، مع العلم أنني كنت أظنُ صعوبة الوصول إليه. ومن أنا حتى يلتقي بي هذا السيد الجليل سيما ونحن نسمع من خلال وسائل الإعلام أنه رفض مقابلة فلان وعلان وآخرين والجميع أسماء لامعة في عالم السياسة على الرغم من أنني أجهل قطعاً سبب رفضه لقاءهم. لذلك كنت أشجع نفسي بأنني أمتلكُ سبباً قوياً بأن ألتقي به ليس فقط بحثاً عن الجواب الشافي على ترديد كلمة لماذا، بل هناك أيضاً أسئلة محيرة يمكن ايجازها بالتالي:
• ما هو دور الدين في العراق الجديد؟
• لماذا الغياب الواضح للإحتراف في بناء العراق، ومسؤولية من؟
• أين هي مسؤولية الدين في نشر الوعي عند المواطن؟
في عيوني جمال... من يراه؟
فعلاً بدأتُ أشعر أنني متأكد من نفسي ومتشوق إلى هذا اللقاء ولكن من هو الذي سوف يوصلني إليه؟ سيما أنني أنتمي إلى كل العراق، بصحيح العبارة: لا يوجد عندي أي أرتباط حزبي، ولا أنتماءات مصلحية مقربة من علو المنبر السياسي العراقي الحديث، والذي فيه الكثير من إدعاء الدين بالأسم فقط والمزيف بالفعل.
وبالصدفة وخلال اللقاء الرائع مع أحد الأخوة من الفنانين العراقين، وأثناء الحديث معه ذكر لي أن أعماله محط إعجاب ألسيد السيستاني، وهنا كانت المفاجأة: يا إلهي السيد السيستاني يتذوق الفن!؟، ولِمَ لا؟ وأنه كأي إنسان يعشق الإبداع ويتمتع بالجمال. هذا ما قاله لي هذا الفنان المبدع.
وسألته مباشرة: هل بمقدورك أن توصلني إليه؟ وإذا به يتفاجأ بطلبي ، ويردُّ علي:َّ "ليش تريد تشوفه"؟
وبلهجتنا العامية الجميلة أجبته: في عيوني جمال الحياة، هل يستطيع السيد السيستاني أن يراه معي؟، ويجيبني من قتل أخي الإنسان؟، وأين الوردة الحمراء "الجورية"؟، ومن أحرق المشتل في الحي القديم؟
ببساطة جداً من يعشق الجمال يراه في عيون الناس جميعاً. وعيوني فيها أيضاً بعض دموع ألأمهات العراقيات وبكيتُ كثيراً ثم وعدني هذا الفنان الرائع بأنه سوف يسعى إلى ترتيب اللقاء.
وكان وفياً بوعده فبعد أيام من لقائي معه، رنُّ هاتفي وسمعته يقول لي بغبطة أنه سوف يصطحبني إلى بيت السيد السيستاني في اليوم كذا وفي تمام الساعة كذا.
شكرته كثيراً وأهديته وردة جورية من مشتل حينا القديم، وهو أعرفُ كم هي ثمينة عندي تلك الوردة التي تحمل عبق ذكريات زمن الأصدقاء الشهداء وأنا اترقب عودتهم عند المساء.
صدق الرداء
فكرتُ كثيراً بأي منظرٍ وعطر ٍسألتقي هذا السيد الجليل، وقررت أن أرتدي الصدق كله ليكون مظهري. وأطرح كل ما في جعبتي من أسئلة، كنت أتردد أحياناً فلعلها ثقيلة عليه وانا تلميذ صغير جئتُ إليه طمعاً بالجواب، ثم أشدُّ على نفسي بالحديث معها، الإنسان يحبُ أخيه الإنسان وليكن هذا الإنسان اليوم يلتقي بأخيه ولا يوجد من يميزهُ سوى الأداء في العطاء الإنساني، ونحن جميعاً في هذه الدنيا راحلون، لنترك ذكرى طيبة يلخصها القول الشعبي المعروف: "كان خوش آدمي. ألف رحمة على البطن اللي حملته".
وهكذا دخلنا الدار البسيط والكبير في قلوب الناس جميعاً، ويستقبلنا أبنه الشاب السيد محمد رضا، ليسألني في البدء عن عملي ومحل إقامتي وليتعرف عليَّ.
لم أعد قادراً حينها على حبس دموعي التي تراني دائماً أكثر مني، ليردَّ صاحبي عني بأنني قادم من بريطانيا، وإنني أتمنى لقاء سماحة السيد. وكان هذا الشاب الوسيم كثير الحراك والكلام مع الضيوف القادمين.
وبين حين وآخر يرجع علينا ويواصل الحديث معي. شعرتُ باستغرابه من خلال نظراته إليَّ وإلى دموعي النازلة مع الصمت الذي لازمني ساعة دخول البيت.
في حضني حمامة
لا يزال هذا الشاب السيد مجمد رضا يحوم حولي لمعرفة المزيد مني، وبدأ الحديث المباشر مرة أخرى معي. وأتذكر جيداً أن أجوبتي كلها كانت تصبُ في القول الموروث: خير الكلام ما قل ودل. وعرف مني جيداً قصد زيارتي هذه، في اللقاء بالسيد المرجع (الوالد) وليس هو المعني. وأعتقدُ أنني كنت واضحاً جداً معه في ذلك، وكان ذكياً في ادراك نبرة حزني وعمقه. ذهب حينها بعيداً عنا وغاب برهةً ثم رجع ليعلن لي بأذن الدخول على سماحة السيد علي السيستاني.
وفي هدوء تحركتُ من مكاني متمشياً مسافة أقل من خمسة أمتار، متوجهاً إلى باب غرفة دخلتها، وعلى اليمين كان يجلس سماحة السيد وسرعان ما أطلقتُ السلام عليه وأذا به يرد التحية بأحسن منها وينهض من مكانهِ واقفاً، وبدأتُ أعانقهُ وبدون قصد وكأنني أعرفهُ من سنيين طويلة. وطلب مني أن أستريح إلى جنبهِ، يا إلهي! أنني إلى جنبِ أخي الإنسان أجلس معه.
سهَّلَ هذا عليَّ بدء الكلام حيث أن أول الإنطباع وفر عليَّ اختزال الكثير من خزين الشجن وكيف ومن أين أبدأ معه. هكذا أنا مع سماحته جنباً إلى جنب وقريب جداً منه، ربما دخلت إلى روحه والله أعلم في شعور الطمأنينة الرهيب، وكل ما حولنا هدوء في هدوء وعلى الأرض نجلس متربعين عليها.
توجهتُ بأسئلتي كلها واحدة تلو الأخرى، وكنتُ أحياناً أقاطعه. الكلام يلزمني ادخال سؤال آخر والسيد الجليل يجيبني. يا إلهي طمعتُ بأكثر مما أريد من أجوبة. هكذا الإنسان عندما يكون بسيطاً، تستخرج منه كل ما يحيّرك وأنت تستمع إليه في هدوء تام، ولم تنزل الدموع، أحسستُ بمن يمسحها عني. قول جميل من هذا الإنسان، لم أزل أتذكر معانيه:
• هذا بلدكم، وعليكم بناءه.
• الجهل في الأمة عارم
• مسؤولية المثقف ودوره في المجتمع.
• إن جريمة قمع وقتل الإنسان منذ أربعة عشر قرن لا تزال مستمرة.
• حضارة الغرب وأثرها على شعوب العالم.
• الفقر الشديد في أفريقيا
• منظر الدبابة الامريكية في شوارع المدن العراقية ومن أتى بها؟
يا إلهي، مضى كل الوقت الذي يحمل وجع السنين في جلسة قدرها خمس وثلاثين دقيقة، وأنا لم أزل متربعاً على كل الأرض، ويداي لما يزالا في دفءٍ، وكأنني ماسكاً حمامة في حضني لأشكره على ما أمضى معي من وقته الثمين.
تصور عزيزي القاريء سماحته يعتذر إليَّ بأنه غير قادر على النهوض ثانيةً، ليودعني ويشير إلى آثار العملية الجراحية التي أجراها مؤخراً في القلب، وصحته لا تزال في طور الشفاء.
تمنيتُ له الشفاء التام، وودعته في سلام من الله.
لا تستحٍ من إعطاء القليل فأن الحرمان أقل منه
يتضح مما مرَّ من أجوبة عميقة ومعانٍ باهرة أن المواضيع في حضرته تبقى مفتوحة دائماً للنقاش وليس هناك مسطرة تحدد لنا دائماً قياس الأسئلة وأجوبتها في دفاتر هذه الحياة على حد قول أحد الكتاب العراقيين في إحدى مكالماتي الهاتفية معه.
فعلاً كان للزيارة مذاق خاص مفعم بالحياة وخالٍ من الضغوط، حيث الإنسان يلتقي مع أخيه الإنسان وقلبه يفيض بالحب للناس على مختلف مشاربهم ومسالكهم.
لم يسألني سماحة السيد في ذاك اللقاء: ماذا تحب؟ أو تكره؟ وتلبس؟ وتأكل؟
لماذا لم نتعلم من العلماء الكبار منهج الفكر الصحيح، ونبتعد عن فرض ما نؤمن به على الناس. فالدين هو النصيحة. وما نشاهده اليوم من قتل للإنسان في العراق هو عين الجهل برمته.
لعلنا يوما نرى روح المحبة سائدة، ونستفيد من تجربتنا القاسية التي فيها الكفاية من المآسي المريرة والزمن الأغبر (زمن العصابة البعثية البغيض).. وليس عيباً نتعلم من بعضنا البعض النصيحة ونشد أيدينا بأيدي بعض بحسن نية واضحة، ونجعل الصدق رداءنا، ولا نقبل أن نستبدله بآخر.
وليكن النجاح سمة أعمالنا، فمن غير المفيد أن ينجح زيد بدون عمر. كلهم للعراق عنواناً للنجاح.
وعندما نلتقي بقلب مفتوح، ليس فيه أي بغضٍ، نعتذر عندما نخطأ، ونرجو أن نتسامح بالفعل وليس بالقول فقط، ونتعلم أن نبتسم لبعضنا، ولا نقبل بغير كلام الحب، ونتذكر أن "الكلمة الطيبة صدقة"، والإحترام بيننا باقٍ حتى في الخصام والإختلاف، وهي صفة التربية المهذبة، ولنحتضن أهل الإبداع من الكتاب الرائعيين والشعراء والفنانين وأساتذتنا المخلصيين، فكلهم لنا، وانا وانت لهم، وليس عيبا أبداً أن نظهر مختلفين فيما بيننا. ولا ندع خصوصياتنا سوء فهم لمشتركات كثيرة بيننا، والفصل بين ما نحب ونريد وبين ما يحبه ويريده الجميع.
إن الدول المتقدمة علينا تطورت لأنها تحترم آدمية الإنسان. وترى فيه القيمة العليا على هذه الأرض. لذا وضعت كل القوانين لحمايته، فمعاني الصدق في العطاء هي بأن تكون لغة الإنسان إلى أخيه الإنسان خالية من فرض الدين بالإكراه، وجميعنا يعلم أن كل هذه الأديان جاءت من أجل سعادة الإنسان في الدنيا. يستهوينا حديث الدين عندما يكون هناك حب كبير إلى الدين الآخر، ولا نستحي من أعطاء القليل ونتذكر أن الحرمان أقل منه، والمال ليس وحده المقصود في هذا العطاء بل المعاني السامية في روح آدمية الإنسان: البسمة، الكلمة الطيبة، الرحمة، الهمسة، الرقة، الطيبة، الخ... وهذا ما يحتاجه الناس في العراق اليوم فيما بينهم.
وإذ نمتليء بهذه المعاني الإنسانية المضيئة فستأتي لاحقاً كل الخدمات العامة لدفع منظومة الإنسان نحو الأمان والسلام والتقدم والإزدهار. ويقيناً أن يد الله دائماً مع الجماعة المحبة لبعضها.
قل: آمين يارب العالمين.
منقول من شبكة اخبار النجف الاشرف
تعليق